منوعات

رأفت السويركى يكتب : تفكيك العقل الرأسمالوي السياسوي الأميركي المهيمن

“الظواهري إتقتل في كابول يا رجالة”… تذكرت هذا التعبير الشعبوي الدارج؛ وأنا أتابع المواقع الإعلاموية، والقنوات التلفازية، لاكتشاف ما تلعب به “مكاتب التفكير” think tanks الاستراتيجوية الأميركية؛ وأيضاً ما ترتبه الأجهزة المعنية بإدارة الصراعات وتنفيذ السيناريوهات؛ في ضوء زيارة “نانسي بيلوسي” رئيسة مجلس النواب الأميركي إلى تايوان؛ وهي الزيارة الاستفزازية من نوعية التحرش السياسوي للـ “التنين الصينوي” .

لذلك فواقعة مقتل “أيمن الظواهري” وريث زعامة “تنظيم القاعدة المقبور”؛ والتي حدثت خلال الأيام الأخيرة لا ينبغي أن تعبر كما يُقال أو تمر مرور الكرام؛ وإنما يجب اعتبارها غطاءً لمرحلة من مراحل استصناع سيناريوهات السيطرة على العالم؛ والتي تقوم بها “الدول المتغلبة” وهي تعالج أزماتها البنيوية، وتحاول تأكيد ثقلها الوازن في الكوكب… “الرأسمالية العولموية أنموذجاً”.

وهذا ما يحاول المقال الراهن قراءته؛ ولعلها تكون استكمالاً لسلسلة تدوينات سابقة اهتمت بتفكيك دلالات لعبة أو متغير “الإنسحاب العسكريتاري الظاهري” الأميركي من أفغانستان، وتسليمها إلى “جماعة طالبان” وفق ما يمكن تسميته بـ “اتفاقات الدوحة” الخاصة باستئناس طالبان وتقليم أظافرها؛ ولربما توظيفها لاعباً فاعلاً في إطار “الاستراتيجيات الأميركية المتعولمة”.

يتحدد إعلان خطاب قتل أيمن الظواهري في النقاط التالية:

** غارة جوية أميركية استهدفت مقر إقامته بمنزل سكني في العاصمة الأفغانية كابول نهاية الأسبوع الماضي؛ بعد أن تم رصده عبر شرفة بيته ففضحته صورته. يقول الأميركيون: “تعرفنا على الظواهري في مناسبات متعددة ولفترات طويلة على الشرفة”!!

وهذا يعني أن الأميركيين يعلمون إذن علم اليقين بتواجد الظواهري في كابول والذي يقيم في حماية طالبان لشعوره بالراحة مع سيطرتها على أفغانستان باعتبارها تنظيماً من جنس “الإسلام السياسوي” المستصنع على نسق “القاعدة” والمستولد من فكرة “التنظيم الأم”؛ أي “جماعة حسن الساعاتي البناء” والتي أشرفت على تأسيسها الاستخبارات البريطانية.

ومن دون شك فإن الاختراق الاستخباراتوي الأميركي لطالبان مهد لاستيعاب الظواهري وإدخاله إلى القفص واصطياده، أو لربما ترتيب إخفائه وإخراجه من اللعبة لاحقاً. وقام بترتيب الاصطياد بتقديم مكافأة تبلغ 25 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تقود للقبض عليه. فمن نال تلك المكافأة المذهلة من “طالبان” إذن؟!

** العملية لم يجرِ تنفيذها من قبل الجيش الأميركي، وإنما من طرف “وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية” CIA لأن الجيش الأميركي يشن الغارات في العادة على نقاط موجودة في “مناطق حرب” معلن عنها بشكل نظامي، في حين تتولى “وكالة الاستخبارات المركزية” تنفيذ غارات يُراد لها أن تظل محاطة بالسرية.

ولعل هذه المعلومة لا تلفت الاهتمام النخبوي الفاشل حين يجري تجريد الدولة الأميركية “الديموقراطية” من “العسكرة المستترة” بما يناسب لعبة الحكم التي يجري تصديرها واعتبارها أنموذجاً للمتشوقين.

** الأميركيون يعتبرون تلك العملية ” مُخططة بدقة مثل تلك التي قتلت بن لادن في مخبئه بباكستان العام 2011 م” من خلال عملية دهم للقصر الذي كان يختبئ به؛ شاركت بها مروحيات الشبح وعلى متنها حوالي 25 جندياً من قوات المغاوير الأميركية مع بعض عناصر الاستخبارات الباكستانية، ليسقط قتيلاً برصاصة في رأسه.

وهذا التوصيف العملياتي سيبدأ نتيجة مشابهة الأسلوب في استدعاء أسئلة لا يتم الإجابة عليها مثل: لماذا قام الجيش الأميركي بإلقاء جثة “بن لادن” في البحر؟ ولماذا لم يجرِ الكشف عن أية صور شهادات تدل على حمضه النووي. وهو الأمر نفسه الذي سيتبع مع جثة أيمن الظواهري التي قد تكون تفتت!!

** يُرجح مُحللون أن يكون الظواهري قد قُتل على الشرفة بصاروخ من طراز “RX9” المخصص لتقليل الأضرار الجانبية الكبيرة “، وهو أول هجوم أميركي معروف منذ سقوط أفغانستان العام الماضي بأيدي حركة طالبان.

وهنا – وفق لعبة السيناريوهات وليس تفكير المؤامرة – لن تظهر صور جثة الظواهري والأدلة الضرورية لإغلاق الملف؛ حيث جرى تفتيتها بالصاروخ المدروس تأثيره عبر الاستهداف المحدد للشخص المراد قتله. ويكفي ادعاء الرئيس الأميركي بايدن: ” بأنه لم يتعرض أي من أفراد عائلته أو أي مدنيين آخرين إلى الضرر بسبب الضربة”!!

** إن مقتل أيمن الظواهري داخل أفغانستان، يمثل دليلاً قاطعا على ترابط “حركة طالبان” و”تنظيم القاعدة”، ويكفي أنها سمحت له بالظهور في التسجيلات الصوتية والمرئية؛ وارتكن للإقامة في رعايتها؛ وأن الأميركيين هم الذين سلموا لها قياد الدولة الأفغانية؛ لتشهر الدولة الإسلاموية في إطار اللعب الأميركي بـ “الإسلام السياسوي”.

والشئ بالشئ يُذكر؛ فالاستخبارت البريطانية دعمت واحتضنت ومولت “جماعة حسن الساعاتي البنَّاء” الموسومة بـ “الإخوان المسلمون” والتي تمثل فكرانياً وتنظيموياً الرحم المنجب لتنظيمات العنف والقتل؛ والاستخبارات الأميركية نفسها دعمت واحتضنت ومولت ووظفت “جماعة القاعدة” لإنهاك الاتحاد السوفياتي وطرده من أفغانستان. ولا تزال تحتضن “جماعة حسن الساعاتي” وترعاها لعدم انقضاء مهماتها بعد!!
** اختلف الأميركيون – في الظاهر لتبرير مقتلة الظواهري – مع طالبان باتفاقهما خلال “مفاوضات الدوحة” بعدم تنفيذ عمليات في “الداخل الأفغاني”، لكن المسؤولين الأميركيين ينفون ذلك. فوجود أيمن الظواهري في كابل كان أميركياً يمثل “انتهاكا واضحا” لاتفاقية العام 2020 م التي وقعتها طالبان مع واشنطن و”تعهدت فيها بعدم السماح بأن تصبح أفغانستان ملاذاً للمتشددين”.

وهنا تتوالى الأسئلة: ألا تعلم الاستخبارات الأميركية من قبل بوجود عناصر وبعض قيادات القاعدة في الداخل الأفغاني منذ التواجد السوفياتي به؟ وألم يكن هذا الملف الأساس من ملفات التفاوض؟ ولماذا لا يكون لطالبان دور جديد خادم للاستراتيجيات الأميركية طالماً جرت الموافقة على تسليمها السلطة؛ ودعم و”تبرير دولنتها” كحركة لتنفرد بالسلطة هناك؛ وتمثل نموذجاً يحقق متخيل المهوسين بالإسلام السياسوي؟
وبذلك وفق قراءات “المسكوت عنه” تبدو حقيقة الاختلافات الطالبانية / الأميركية نوعاً من غطاءات “لعبة السيناريوهات” المدروسة و”ألف بائها” قبل التوقيع عليها وقوننتها؛ ويجري تنفيذ برامجها خطوة خطوة!!

وهنا تنفتح طاقة القراءة والتفكيك لإدراك المضمرات المسكوت عنها في لعبة السياسات وإدارة الصراعات:
– هل سعت طالبان – في إطار تسديد الفاتورة للأميركيين – أن تتخلص من الظواهري “بسبب خلافات معه جرى الحديث عنها مؤخراً”، لذلك جرت العملية بـ “وشاية من داخل طالبان إلى الولايات المتحدة عن مقر إقامة الظواهري وشرفة اصطياده”؟

– هل يعني ذلك مؤشراً لتصورات متوقعة بإعادة صياغة طور “القاعدة” الجديدة؛ وتجهيزها لأدوار مغايرة للتحديات القديمة.

وهنا لا ينبغي التغافل عما يروج “حول فكرة الإطاحة بالظواهري، أو مطالبته بالتنحي وتنصيب حمزة بن لادن بديلاً – باعتباره الأحق بخلافة أبيه مؤسس القاعدة إزاء ما يقال حول فشل الظواهري في إدارة التنظيم” والذي لم يعد له حضور ملموس بقوة راهناً.

– لماذا لا يكون مقتل الظواهري ومن يماثله لاحقاً من قيادات الصفوف التالية يمثل تصوراً مرتباً ومتفقاً عليه بين الأميركيين وطالبان في إطار “سيناريو إدارة الأزمة” حول طاولة التفاوض بمحادثات الدوحة؛ لـ “غسل سمعة طالبان الإرهابية” واستيعابها نظاماً جديداً يدير أفغانستان ولكن بالشروط الأميركية؛ ولعلها تكون قطب المغناطيس الذي يجمع شوارد الحديد المنفلته في العالم بطريقة أو أخرى!

– إن الموقع الاستراتيجوي لأفغانستان يبقى يمثل الأرضية المناسبة لترتيب “السيناريوهات الجديدة” للجيوبوليتك الخاص بالصراعات والعنف في ضوء السيطرة على فضاءات العمليات في العراق وسوريا واليمن وليبيا و… إلخ وهذا ما يجعل أفغانستان تبقى تمثل البيئة الرخوة المُسيطر عليها والمجهزة لاستقطاب وامتصاص فائض قوى الإرهاب المنفلتة. ولعل هذا ما قد يُمثل إحدى الأوراق المخفية ـ غير المُسْفَر عنها ـ لاتفاقات الأميركيين وطالبان حول طاولة الدوحة؛ بمنهج “خُذْ ما يُرْضيك واعْطنِ ما أريده منك”!

– إن مُسْتَصْنَع “تنظيم القاعدة” قد شاخ وتهالكت عظامه؛ وكذلك الأمر بالنسبة لمشتقاته “داعش” وينبغي القيام بطي صفحاته والتفكير في أطوار تتجاوز في الوظيفة نمط الصراع السياسوي الخاص بطور الرأسمالية النمطوية والتي تنتقل إلى طورها العولموي والمناسب لأطوار صراعات جديدة.

– وتفتح عملية قتل الظواهري الطريق أمام قراءة تتشوف إلى أن – ربما – يتم إجبار طالبان على خوض صراعات لاحقة مع بقية الأفرع والأجنحة الميليشياوتية “داعش أنموذجاً” بمتوهم الجهاد الفاسد نتيجة تحميلها مسؤولية التسبب في القتل حيث لم توفر له الحماية الواجبة أو أنها قامت بالتضحية به لإرضاء الراعي الأميركي.

ومن المهم إدراك وقراءة الحدثين المترافقين في توقيت واحد؛ وهو الإعلان عن مقتل أيمن الظواهري؛ وزيارة التحدي لرئيسة مجلس النواب الأميركي “نانسي بيلوسي” إلى “جزيرة تايون”؛ وما يمكن أن تقوم به من صب الزيت حول العلاقة الصين/أميركية. فأي الحدثين إذن يمكن أن يقوم بالتعمية على الآخر: مقتل الظواهري أم زيارة بيلوسي لتايوان؟

– وإذا كان الأميركيون يغلقون الباب الأفغاني بإعلان مقتلة الظواهري؛ فلماذا يطرقون “الباب التايوني”؛ ويقومون بتسخين العلاقة مع الصين؟ ولماذا تقدم الولايات المتحدة الأميركية صورة جديدة مغايرة عن الضوابط غير المسبوقة والحاكمة لأجهزة الدولة هناك.

فتصفية أيمن الظواهري تقوم بها “وكالة الاستخبارات الأميركية” وبإحدى طائراتها المُسيَّرة الخاصة. و”نانسي بيلوسي” رئيسة مجلس النواب الأميركي تصل “تايبيه” بطائرة عسكرية؛ في حركة استفزاز للصين التي اعتبرتها توجهاً من واشنطن لـ ” تفريغ مبدأ صين واحدة”؛ متوعدة بشن عمليات عسكرية “محددة الهدف”!! وإشهار أن ” الجانب الأميركي سيتحمّل المسؤولية، وسيدفع الثمن في حال المساس بمصالح الصين الأمنية السيادية”.

– فهل هذا يعني أن الدولة الأميركية تتفكك سياسوياً؟ لأن أجهزتها ومؤسسات الدولة هناك صارت تعمل وفق ما يشاء كل جهاز من دون ضوابط؟ أم أن اللعبة السياسوية المنظمة الجديدة التي يتم الإسفار عنها ويجري الترويج لها هي إعادة تنويع توزيع بيادق الداخل في إطار استراتيجية بنيوية سياسوية أميركية جديدة؟

وهذه الاستراتيجية تعتمد “تقليب الملفات” بما يحقق أكبر المكاسب من دون تحقيق أي إحراجات للنظام الحاكم بلعبة توظيف “فن الممكن” لتحقيق المستهدف والذي لا يخرج عن ثوابت السياسة العامة للدولة الأميركية.

والمؤكد أن رئيسة مجلس النواب “نانسي بيلوسي” لا يمكن أن تنهج أسلوباً خاصاً يتجاوز ثوابت وكلية نظام الدولة الأميركية؛ فقد اعتبرت “أن زيارتها تظهر التزام واشنطن القوي حيال الجزيرة/تايوان التي تتمتع بحكم ذاتي” على الرغم من أن الصين تعتبرها جزءاً من أراضيها. والأمر نفسه يتجلى أنموذجاً في عملية تصفية الظواهري عبر الـ “CIA” وليس الجيش الأميركي!! “.

– هل يأتي حادث تصفية الظواهري واختراق بيلوسي لمناخ التوازن الصيني الأميركي بكل محاذيره الجيوسياسوية لترسيخ النمط الجديد من التصارع ” المشكلة الروسية/ الأوكرانية أنموذجاً”؛ بالعودة إلى مفهوم ونظرية الدولة القديم “الاتحاد السوفياتي الذي تفكك” والصين القديمة قبل انفصال تايوان؛ وتأثيرات الجغرافيا السياسوية على خريطة وآليات التصارع؟

– وكما حشرت الولايات المتحدة أنفها في المسألة الأوكرانية؛ تأتي لتدس أنفها بـ “صفاقة سياسوية” مقتربة من أنياب التنين الصيني؛ لعلها تقوم بتوريطه في نقطة صراع قديمة؛ ولربما تشكل إنهاكا له يؤثر على التغول الاقتصادوي الصيني الراهن بما يكتنزه من مليارات الدولارات بدءاً من المرحلة الكيسنجرية وهو ما يجهد الاقتصاد الأميركي.

تراتبية وتتابع الإعلان عن قتل أيمن الظواهري زعيم القاعدة المغدور في أفغانستان؛ ثم الزيارة منافية للتقاليد التي قامت بها نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأميركي إلى تايون بشعارها المخادع برعاية متوهم الديموقراطية… واقعتان تؤكدان أن الرأسمالوي الأميركي لا يتوقف عن اللعب سياسوياً والغزو وإثارة القلاقل والفتن وتوظيف السيناريوهات المتغيرة والمتطورة للبقاء في بؤرة الضوء؛ لهذا لا غرابة من القول الساخر: “قتلوا الظواهري يا رجالة”… ويتحرشون بـ”تنين” الصين!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى