منوعات

يحيى وجدي يكتب: وقائع الاستيلاء على أشهر سينما في قلب وسط البلد

تاجر قطع غيار سيارات يحول مبنى “ريفولي” التاريخي إلى “خرابة” تمهيدا لهدمه!

مدخل دار العرض التراثية أصبح معرضا لبيع “حلاوة المولد” وواجهتها الخارجية محلات عصير قصب و”مقلة لب” وانهيار الطوابق العليا.

حريق غامض اشتعل في قاعاتها عام 2018.. واستغلال أعمال حفر مترو الأنفاق للقضاء على السينما تماما
تاجر في سوق التوفيقية يدعي شراكته للأمير الوليد بن طلال مالك “ريفولي” ويؤجر مخارج الطوارئ لباعة الإكسسوارات والمواد القابلة للاشتعال

لابد من إعادة السينما إلى أصلها تحت إشراف “القومي للتنسيق الحضاري” وعلى وزارة الثقافة مخاطبة الأمير السعودي لإعلامه بالجريمة.

هذه القصة مثال لكيف تتكون بؤر العشوائية والفوضى والقبح، في قلب أجمل المناطق في مصر وأكثرها خصوصية..

نموذج لكيف يتم الاستيلاء على التراث والمباني ذات الطراز المعماري المتميز، وإحراق تاريخها الفني والثقافي وتحويلها إلى خرائب! لو جاء ذلك في عمل درامي مثل مسلسل “الراية البيضا” لقلنا إنها المبالغة الدرامية، وأن السيدة فضة المعداوي شخصية على الورق لا مثيل لها في الواقع، لكن السيارة المرسيدس البيضاء التي تقف داخل بهو واحدة من أقدم وأشهر دور السينما في القاهرة بعد تدمير بوابتها ومدخلها المميز، تقول إن التطابق مدهش، وإن الدراما ليست بعيدة عن الواقع كثيرا، أو أن الواقع أصبح دراميا بما يتجاوز الخيال على الشاشة، وأن فضة المعداوي أقوى من الزمن!

وسأبدأ من نهاية القصة.. قصة سينما “ريفولي” التي إن مررت بجوارها الآن في شارع 26 يوليو فلن تتعرف عليها حتى لو دخلتها في السابق لمشاهدة أي فيلم. ذلك أن السينما المميزة التي تواجه دار القضاء العالي أصبحت مبنى مشوها عبارة عن بهو دائري مفتوح على الشارع أمام محطة مترو جمال عبد الناصر الجديدة.

وقد تراصت فيها علب “حلاوة المولد” وأمامها باعة يدعون المارة للشراء بالصياح فيهم، وحول البهو من جهة اليسار “مقلة لب” ومحل عصير قصب تحت لافتة ضخمة اسمه “سيتي درينك” وبجواره محل صغير لبيع القمصان الجاهزة باسم “هاني فاشون”، ومحل أصغر لتركيب العطور تقف أمامه فتيات صغيرات السن يعرضن على المارة تجربة منتجاتهم، ومن الجهة اليمنى على الناصية المقابلة لفندق “كارلتون” التراثي والشارع المؤدي لسوق التوفيقية، توجد “معصرة قصب” أخرى مغلقة، وممر كان قديما مخرج الطوارئ الخاص بالسينما.

لكنه تحول إلى محلات أخرى صغيرة أقرب لـ”باكيات” لبيع إكسسوارات السيارات ومواد خاصة بها مثل المنظفات والزيوت وأغلبها مواد قابلة للاشتعال، ثم معرض للسيارات بداخله سيارة مرسيدس بيضاء موديل التسعينيات، ثم باب مقفل دائما مكتوب فوقه “قاعة طلال بطاح”! ثم مكتب بباب زجاجي يحمل لافتة “شركة ريفولي للاستثمار” و”قناة ريفولي الفضائية للأطفال” وبوستر خشبي للفنان أحمد ماهر باعتباره المشرف “الفني” على أكاديمية “ريفولي” الفنية! ولافتة نحاسية مذهبة مدون عليها “دائرة أملاك سمو الأمير الوليد بن طلال.. خالد درويش بطاح” ومن هذه النقطة وهذه اللافتة بدأت كل خطوات الاستيلاء على دار سينما ريفولي وتدميرها من الداخل وتحويلها إلى مبنى شائه في قلب شارع 26 يوليو وعلى بعد خطوات من شارع رمسيس ومحطة الإسعاف، وعند هذه اللافتة تنتهي حدود مبنى سينما “ريفولي” الذي كان، ويلتصق به مبنى آخر عبارة عن مول قبيح باللون الأصفر يمتلكه السيد خالد درويش بطاح ومخصص لبيع قطع غيار السيارات والموتوسيكلات!

إذا حاولت أن تصور هذا كله، فلن تتمكن حتى من رفع تليفونك وستجد نفسك محاطا بعدة أشخاص وظيفتهم منع التصوير وحماية المكان، كما حدث معي في أكثر من محاولة، انتهت إحداها بإجباري على مسح الصور!
يشير بوستر قديم على واجهة السينما العلوية، حيث كانت تعلق الأفيشات إلى أن آخر فيلم عرض في سينما “ريفولي” كان فيلم “عمر وسلوى” لكريم محمود عبد العزيز وبوسي وسعد الصغير، وفيلم “حماتي بتحبني” للفنان الراحل سمير غانم وحمادة هلال وميرفت أمين، هذا معناه أن السينما مغلقة منذ عام 2014، وبجوار بقايا الأفيش، لافتة لشركة “اتحاد الفنانين” والتي كانت تستأجر قاعة المسرح آنذاك حيث عرض على مسرح سينما ريفولي عام 1991 مسرحية “شارع محمد علي” للفنان الكبير فريد شوقي وشاركه بطولتها الفنانة شريهان والفنان الراحل هشام سليم.

ومنذ ذلك التاريخ (2014) أصبح مبنى دار عرض “ريفولي” تحت يد وتصرف خالد درويش بطاح وهو أحد كبار تجار قطع غيار واكسسوارات السيارات والدراجات البخارية في منطقة التوفيقية وكان قبل ذلك “معلما” لبيع الفاكهة حينما كان السوق مخصصا لتجارة الفاكهة والخضراوات قبل أن يتغير نشاطه ويتغير مع النشاط تجارة بطاح الذي يمتلك أيضا عدة محلات و”مول” حديثا مجاور للسينما ويتمتع بتاريخ طويل مليء بحكايات التجار عن نشاطه وكيفية امتلاكه لهذه الأماكن داخل “التوفيقية”!.

يدعي السيد خالد بطاح أنه مدير أملاك الأمير الوليد بن طلال وأنه شريكه أيضا، وبالتالي له حق التصرف في مبنى السينما المسجلة ضمن سجل المباني التراثية في الجهاز القومي للتنسيق الحضاري برئاسة المهندس محمد أبو سعدة منذ عام 2010 باعتبارها من المباني التراثية المميزة في وسط البلد، وبالتالي لا يحق للسيد بطاح هدمها أو تغيير واجهتها، لكنه تحايل على ذلك بتأجير المدخل وما حوله، لصالح عدة محلات تقوم هي بدورها بتغيير طبيعة المبنى، ومنذ عام 2016 حاول حي الأزبكية إغلاق هذه المحلات بالشمع الأحمر، لكنها تعاود نشاطها بعد يومين، وهو ما تضمنه تصريح صحفي للمهندس سيد عبد الفتاح رئيس حي الأزبكية في عام 2017 أنه قام بعدة حملات بالتعاون مع الأجهزة المعنية لإزالة كافة الإشغالات بمحيط سينما ريفولي، وأسفرت الحملات عن إغلاق أربعة محال وتشميع الباكيات داخل السينما، لكن الباعة يعودون بعد دفع غرامة قيمتها مائة جنيه!.

تواصل التحايل لتغيير طبيعة المبنى وتحويل السينما إلى مول تجاري، بفتح المزيد من المحلات في مدخلها وهدم قاعة الطابق الأرضي، ثم وضعت لافتات نهاية عام 2017 تعلن أن السينما قيد التطوير!

لكن التحايل وصل إلى مرحلة خشنة، واندلع حريق غامض في الطوابق العليا للسينما وسطحها في فجر أحد أيام شهر أغسطس عام 2018، ما ذكّر تجار سوق التوفيقية بحريق يشابه حريق السينما في “حكر” داخل السوق رفض شاغلوه إخلاءه وكان أحد أطراف هذا النزاع على “الحكر” أيضا السيد خالد درويش بطاح، الذي خرج على الصحفيين بعد حريق “ريفولي” ليعلن أن النيران الغامضة التهمت الأسقف وأنها دمرت أعمال التطوير التي يقوم بها في السينما وبلغت قيمتها نحو 30 مليون جنيه على حد ادعاءاته، وكان واضحا للجميع ممن استطاعوا تصوير المكان من الداخل أنه لا تطوير هناك ولا غيره وأن مبنى السينما يتم تخريبه من الداخل ومن الجوانب التي كانت ممرات خروج لرواد “ريفولي” بحيث لا تصلح لأن تكون دار عرض وفق قواعد وإجراءات الحماية المدنية!

مع بدء أعمال حفر الخط الجديد لمترو الأنفاق، ووضع فواصل حديدية حول موقع العمل، ساعدت على عزل مبنى السينما عن أعين الجميع، زادت وتيرة فتح المحلات والباكيات في مبنى “ريفولي” وتدمير المدخل وتغيير شكله وطبيعته، وفتح قاعة العرض الأرضية على البهو الذي كان يضم مكتب التذاكر، وإزالة الحوائط الخشبية المميزة له، وللتغطية على هذا كله خرج السيد خالد درويش بطاح بالإعلان عن ما يسمى أكاديمية “ريفولي” الفنية التي يشرف عليها الفنان أحمد ماهر، ووضعت صور الأخير في كل مكان داخل وخارج السينما، وأفيشات لأدواره التلفزيونية بأحجام أكبر من من صور النجوم التاريخيين مثل أم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وشادية ممن أحيوا حفلات شهيرة على مسرح “ريفولي” أو نجوم السينما التي عرضت أعمالهم على شاشاتها من بداية الخمسينيات وحتى التسعينيات! وقد عوض الفنان أحمد ماهر غيابه عن الأعمال الفنية وعدم طلب المخرجين له بالتواجد في مكتب فخم أقيم له داخل السينما التاريخية دون أن يفعل شيئا حقيقيا سوى المساعدة فيما يحدث من تدمير هذه السينما التاريخية!

يمتلك مبنى السينما حاليا الأمير الوليد بن طلال وقد ورثها عن والده الأمير طلال عبد العزيز، وأكاد أجزم أن الوليد بن طلال لا يعرف شيئا وسط استثماراته الضخمة التي تتمدد حول العالم، عن حقيقة ما يجري في سينما “ريفولي” باستغلال اسمه، حيث أنه لا يستطيع هو نفسه أن يغير فيها باعتبارها مسجلة في قوائم التراث المعماري، ولا أعتقد أيضا أنه منح السيد خالد بطاح تفويضا ليفعل في “ريفولي” ما يفعله، وأعتقد أن الدولة ممثلة في وزارة الثقافة مطالبة بمخاطبة الوليد بن طلال وإعلامه بما يجري لوقف هذه التخريب فورا، وإلزام من قام به بإعادة الشيء إلى أصله على نفقته، وإعادة بناء ما تم تدميره تحت إشراف الجهاز القومي للتنسيق الحضاري وفق التصميمات الأصلية للمكان.

في العالم كله تتحول المباني مثل مبنى “ريفولي” إلى متاحف، وليس إلى محلات لبيع عصير القصب أو قطع غيار السيارات، وهذه السينما لا تتمتع فقط بمبنى ذي طراز معماري مميز تراثي، فلها أيضا تاريخ فني طويل وعظيم، لقد كانت السينما الشهيرة ضمن ضحايا حريق القاهرة عام 1952 ولكنها نجت وتم إنقاذها وتجديدها، لتصبح بعد أهم دار عرض ومسرح في القاهرة وتغني على مسرحها السيدة أم كلثوم، وفي فبراير عام 1953 أقيم حفل كبير حضره اللواء محمد نجيب قائد الثورة لصالح إغاثة منكوبي الفيضان في هولندا، وتضمنت فقرات الحفل غناء ليلى مراد لنشيد التحرير إضافة إلى فقرات فكاهية ومونولجات للفنان إسماعيل يس وفقرة للباليه الفرنسي وفقرات لعدد من الفنانين الأجانب، وتكررت حفلات كوكب الشرق في “ريفولي” لتحيي حفلا شهيرا عام 1955 حضره الرئيس جمال عبد الناصر وبصحبته المشير عامر، وفي عام 1958 استضافت “ريفولي” مهرجان الفيلم السوفييتي العالمي، والمهرجان السينمائي الآسيوي الأفريقي في فبراير عام 1960، وعلى مسرحها أيضا قدمت الفنانة شادية أغنيتها الشهيرة “يا مسافر بورسعيد” في عام 1957 بعد دحر العدوان الثلاثي، وغنى فيها الفنان عبد الحليم حافظ “أحلف بسماها وبترابها” لأول مرة في سبتمبر 1967.

تاريخ طويل مليء بالأحداث الفنية والسياسية التاريخية بدأ عام 1948، ولا تتسع المساحة هنا لحصره أو حتى الإشارة إلى أغلبه.. تاريخ لا يجب أن يهزمه تاجر قطع غيار سيارات أو أي من كان، ومبنى تصل مساحته إلى 8 آلاف متر بتصميم تراثي مميز لمهندس معماري إنجليزي شهير هو ليونارد ألين، وقاعات تتسع لأكثر من 2000 كرسي بينما نحتاج إلى المزيد من المسارح المجهزة وقاعات العرض، والأهم أن هذه الجريمة تجري وقائعها في قلب وسط البلد وفي أشهر شوارعها شارع 26 يوليو الذي كان قبل ذلك شارع فؤاد، أقدم وأبرز شوارع مصر كلها في الثلاثينيات والأربعينيات، وليس في زقاق أو شارع جانبي..

هذه الجريمة يجب أن تتوقف فورا، وأن يحاسب المسئول عنها ويدفع الثمن، هو وكل من تحايل على القانون وكل من ساعده ولو بالصمت..

لقد كان المخربون أكثر دأبا في خطواتهم وأكثر تصميما على إكمال استيلائهم على سينما ومسرح “ريفولي” من مؤسسات إنفاذ القانون، ومن الجماعة الثقافية والمدافعين عن التراث، وهذا يجب أن ينتهي الآن وبحسم، حتى لا يتكرر ما حدث في سينمات ومسارح شارع عماد الدين، وتلك قصة أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى